العودة الى الصفحة السابقة

«وَعَلَى ٱلأَرْضِ ٱلسَّلاَم» (لوقا 2: 14 ب)

ان عيد الميلاد هذه السنة مشوب بكثير من الحزن والألم بسبب الاحداث المؤلمة التي عصفت بالوطن الصغير لبنان. هذه الأحداث الأليمة تستوقفنا وتحملنا على الاكتئاب فالعائلات التي غزى الحزن قلبها تعد بالألوف. والجميع يبكون أعزاءهم الذين قضوا خلال المعارك المجنونة التي نشبت. وهناك المئات من المؤسسات والمصانع التي نسفت بالمتفجرات والصواريخ ونجم عن نسفها تشرد عدد ضخم من العمال والموظفين. وهناك بيوت دمر بعضها ونهب البعض الآخر. وهناك عدد كبير من المواطنين اضطرهم الاقتتال الطائفي على النزوح من حي الى آخر أو من قرية الى أخرى. ناهيك عن الذين هاجروا تاركين هذا البلد العزيز الذي سيطر عليه الرعب.

ولكن هذه المحن مع قساوتها يمكن احتمالها بالايمان المسيحي الايمان بعناية الله، التي تحدثنا عن نفوسنا وعن أحبائنا الذين ماتوا في الرب. تلك العناية التي تقول فينا: لئن كنا لا ندري لماذا يسمح الله بالمصائب والالام، فلنا ان نثق ان التيار لن يجرفنا بعيدا عن محبة الله. ان الحزن الواجب ان نفكر فيه الان لأخطر وأفعل أثرا في النفس، أعني به الحزن العميق الناشئ عن فقدان الايمان والرجاء والمحبة عند معظم الناس.

فانه بعد انقضاء قرابة الالفي عام على تجسد الكلمة الأزلي، الذي حيا ملائك الله ميلاده بالنشيد القائل: وعلى الأرض السلام، ما زال العالم في حالة الاضطراب والكراهية والحرب والفوضى الشاملة. فهل فشلت المسيحية، وهل لرسالة الميلاد شأن في النظام العالمي؟ أم هل ادعاء الملاحدة بأن الله قد مات صحيح؟

هذه الأسئلة أود التأمل واياكم فيها بنعمة الله، علنا نجد في آخر الامر ان لرسالة الميلاد اثرا في النظام العالمي. بحيث تضطر حبال الاضطراب الذي أوقده الغادرون الى الاعتراف بأن المسيحية الصحيحية لم تجرب بعد، حتى يقال بأنها فشلت أو بأنها ناقصة أو بأن الهها قد مات. هذا القول فيه افتراء على الحق، وكل ما هنالك ان الناس وجدوا باب المسيحية ضيقا وطريقها كربا، لذلك لم يجربوها. في الحق ان لرسالة الميلاد شأنا خطيرا في النظام الدولي وكان من المجدي جدا ان تجرب وان يعمل بموجبها. ولكن هل لدى المسؤولين في العالم من الشجاعة ما يدفعهم الى تطبيق الشرعة المنبثقة من تواضع ملك المذود؟

قبل كل شيء أرى ان رسالة الميلاد هي رسالة المحبة. فهي اذاعت في الملأ ان الله أحب العالم بمقدار انه بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الابدية. ونادت بين الناس بما لم تستطع ديانة أخرى أو فلسفة ان تنادي به او تفكر فيه. اذ قالت ان المبدأ الاسمى في الكون هو المحبة وان جوهر الله ذاته محبة. وان المبدأ الغالب في فكر الله هو المحبة. وان أعظم قوة دافعة في العالم ليس المال، ولا حب الذات ولا الجيوش الجرارة ولا العقل المفكر بل المحبة، المحبة.

يقال عن السيف اليماني انه دقيق بتار قاطع، حده مرهف حاسم نصله الحاد يقطع عوارض الحديد. ولكن السيف الامضى الذي يقطع سلاسل الانانية والكراهية والحقد هو المحبة لان الله محبة.

ابرز الاستاذ برنر الالماني ملاحظة هامة من تاريخ المسيحية اذ قال: بينما أعلن المسيح فكرة جديدة تقلب أوضاع الأشياء وهي ان الله محبة، فان المسيحية لم تنفذ هذه الفكرة بطريقة منسجمة مع هذا المبدأ، لا في النظام الاجتماعي ولا في النظام الاقتصادي، ولا في النظام الصناعي ولا في الحياة القومية ولا في العلاقات الدولية. بل على نقيض ذلك قبل غالبية المسيحيين مبادئ العالم المألوفة وافكاره كما هي. وكل ما فعله المسيحيون عبر الاجيال انهم ألانوا العالم الوثني من الخشونة والقسوة والمظالم. ولهذا أضاف الاستاذ برنر ان الأخلاقيات المسيحية لم تسد بعد في الجماعة وفي الأمة.

في الواقع ان هذا نراه واضحا في المجالات الاقتصادية حيث لا يزال التنافس القتال، لا التعاون المتبادل. وكذلك المبدأ الاساسي الذي تدار به شؤون التجارة والصناعة، تنعدم فيه اعتبارات المحبة وليس في هذا كله تطبيق لرسالة الميلاد. على ان الرسالة المجيدة ما زالت حية يمكن للامم ان تطبقها اذا أرادت، وتسمعها الشعوب اذا كان لها آذان للسمع.

ورسالة الميلاد أيضا تؤكد قيمة الحياة الانسانية وكرامتها لانها اعلنت ان الله العلي الساكن الابد القدوس اسمه، قد نزل الى دنيانا في انسان بشري وصار واحدا منا. صحيح ان كثيرين لا يستطيعون ان يصدقوا حقيقة تجسد الله، ولكن هذه الحقيقة أعلنت لتثبت صلاح الله وفضله الشامل ومحبته الفائقة. وهي تضع خاتمها الالهي على كرامة الانسان لدى الله وعلو قدرها عنده. لانه لكي يحل كل ملء اللاهوت فيها وجب ان يكون فيها ممكنات رفيعة. لقد حاول أهل البدع مرات عديدة ان يتهربوا من حقيقة التجسد وما تنطوى عليه فعلا، وذلك بالزعم ان انسانية يسوع غير حقيقية، وان جسده مجرد قناع لا غير. وان أطواره العقلية بيعدة عن الانسان المألوف. ولكن المسيحيةالصحيحة وقفت الى جانب الاعتقاد بالتجسد.

فقد قال كاتب رسالة العبرانيين: «فَإِذْ قَدْ تَشَارَكَ الأَوْلاَدُ فِي اللَّحْمِ وَالدَّمِ اشْتَرَكَ هُوَ أَيْضًا كَذلِكَ فِيهِمَا» (عبرانيين 2: 14). وهذا يعني ان الحياة الانسانية مقام لائق بالله، فما أجلّ قدر هذه الحياة الانسانية في نظر الله القدوس! لا فرق في أن يكون الانسان من سكان القصور أم من سكان الاكواخ. ولا فرق في الجنس أو اللون أو الشعب أو اللسان أو الامة فالمسيح نفسه ولد في مذود حقير ونشأ في عائلة فقيرة وعاش في مدينة وضيعة الشأن من مدن الجليل وانتسب الى طبقة العمال. وأنه بذلك أراد ان يوبخ الناس على الفوارق الاجتماعية والمنيرات العنصرية التي أسسوا مقاماتهم عليها بين الطبقات وعاشوا على مقتضياتها. وكأنه يقول لكل منتفخ: ان الحياة الإنسانية شيء مقدس خليق بالكرامة والتوقير، وانه لا يسوغ ان ينظر الإنسان الى أخيه الإنسان نظرة احتقار أيا كان وضعه الاجتماعي، أو المهني أو العنصري. هذه هي رسالة الميلاد، التي يفتقر اليها النظام العالمي في هذا العصر. انها الاساس الوحيد الذي يمكن ان يقوم عليه السلام الحقيقي. ورسالة الميلاد هي رسالة وحدة العالم. «لأَنَّهُ هكَذَا أَحَبَّ اللهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ» (يوحنا 3: 16). هذا هو تأويل يوحنا الانجيلي للتجسد، وما من شيء يبرر عمل الله العظيم هذا، سوى شموله الجنس البشري. وانه لغرور وسخف في الرأي ان يزعم أحد ان له مكانة ممتازة يتفوق بها على غيره. فان المسيح لم ياتِ كشرقي أو كغربي، ولم يأتِ كآري أو كسامي وانما جاء كما قال هو نفسه ابن انسان. وفي ملكوته ليس يهودي ولا يوناني ولا بربري ولا سكيثي ولا عبد ولا حر.

وأخيرا تقدم رسالة الميلاد للنظام الدولي فكرة عظيمة وهي ان القوة الفعالة لانقاذ البشر تجيء فقط من عند الله. فطفل بيت لحم الذي جاء للانسانية منقذا، لم يأت بارادة انسان ولا بقوة بشرية وانما كان هبة السماء للأرض. ففيه وبه ومنه أطلقت قوى السماء لافتداء العالم.

تدعى الدول الكبرى ان السلام في العالم لا يتحقق الا بوجود قوة عسكرية رادعة. ولكن الله يقول: لا بالقوة ولا بالقدرة بل بروحي أنا. والمعروف بالاختبار ان العقول البشرية تستفزها روح المجددة، وان الارادات البشرية تستمد عزائمها من روح الله.

أيها الأحباء

تأكدوا ان الله ملجأنا، انه نور وخلاص لنا، انه الراعي الصالح الذي يقودنا الى المراعي الخضر ويوردنا الى مياه الراحة. لذلك لنعمل بالدعاء والتوسل الى جلاله القدوس ليعجل اليوم الذي فيه يقبل العالم رسالة الميلاد. فيطبع الشعوب سيوفهم سككا ورماحهم مناجل لا ترفع أمه على أمة سيفا ولا يتعلمون الحرب في ما بعد.

والى جانب أدعيتنا وصلواتنا لنكرس حياتنا في جهاد مشترك، لتحقيق ارادة الله. ويا ليت خدام الانجيل يكرسون عظاتهم لإنارة أذهان الرعية بروح الميلاد. ويا ليت المؤلفين يكرسون كتبهم لنشر شعور مسيحي مستنير، يؤثر في الناس ويعمل في قلوبهم انجذابا الى المخلص الرب. اذكروا يا اخوتي اننا عمل الله، مخلوقين في المسيح يسوع لاعمال صالحة قد سبق الله فأعدها لكي نسلك فيها. واذكروا اننا في حاجة الى قوة جديدة تنبعث من ذكرى الميلاد. قوة تحضرنا وتستحثنا الى حياة جديدة في المسيح. ليكون كل واحد منا انسانا جديدا صانعا سلاما. ولتكن صلواتنا فصاعدا هكذا: اسمعني يا رب صوت محبتك حتى استيقظ في الغداة لاني عليك توكلت عرفني مشيئتك اليوم لاني لك سلمت حياتي.