العودة الى الصفحة السابقة

«لاَ تَحْلِفُوا الْبَتَّةَ» (متى 5: 34)

في العظة على الجبل، عالج المسيح عدة أمراض أدبية كانت متفشية في زمنه: منها الكذب في الأقسام، فقد قال: «سَمِعْتُمْ أَنَّهُ قِيلَ لِلْقُدَمَاءِ:لاَ تَحْنَثْ، بَلْ أَوْفِ لِلرَّبِّ أَقْسَامَكَ. وَأَمَّا أَنَا فَأَقُولُ لَكُمْ: لاَ تَحْلِفُوا ٱلْبَتَّةَ، لاَ بِٱلسَّمَاءِ لأَنَّهَا كُرْسِيُّ ٱللّٰهِ، وَلاَ بِٱلأَرْضِ لأَنَّهَا مَوْطِئُ قَدَمَيْهِ، وَلاَ بِأُورُشَلِيمَ لأَنَّهَا مَدِينَةُ ٱلْمَلِكِ ٱلْعَظِيمِ. وَلاَ تَحْلِفْ بِرَأْسِكَ، لأَنَّكَ لاَ تَقْدِرُ أَنْ تَجْعَلَ شَعْرَةً وَاحِدَةً بَيْضَاءَ أَوْ سَوْدَاءَ. بَلْ لِيَكُنْ كَلاَمُكُمْ: نَعَمْ نَعَمْ، لاَ لاَ. وَمَا زَادَ عَلَى ذٰلِكَ فَهُوَ مِنَ ٱلشِّرِّيرِ» (متّى 5: 33-37). ولكأن السيد الرب يقول لمحدثيه انتم تخشون الوقوع في خطية الحنث بالأقسام إذن لا تقسموا أبداً. قولوا الحق مجرداً بلا مقدمات ولا حواشي ولا تحفظ ولا أقسام. فان كانت الكلمة إيجاباً فلتكن نعم، وإن كانت الكلمة سلباً فلتكن لا.

الحق يا أخي لا يحتاج الى حجة تسنده ولا الى حلف يؤيده. وكل إنسان يحترم نفسه لا يحلف لأن الحلف يحط من قدره وينال من كرامته. والواقع ان الحلف ما كان في فم المتحدث إلا شهادة ضمنية على عدم ثقته بنفسه. الى درجة الظن ان السامع لن يصدقه ما لم يحلف. ولكن العكس هو الصحيح فكلام الإنسان الذي يكلف الله جهد ايمانه وقع حسن في أذن السامع.

دعيت مرة من المحكمة الشرعية الاسلامية في مدينة اللاذقية بسوريا للقيام بمهمة الحكم بين زوجين متخاصمين. وقبل ان تطلقني المحكمة في مهمتي طلب اليّ القاضي إداء القسم. فقلت للقاضي وكان شيخا ذا مهابة: يا محترم أنا مسيحي متجدد، وقد نهاني المسيح عن الحلف لذلك ارجو اعفائي. ودفعاً لأي نقاش محتمل أخرجت من جيبي العهد الجديد وأريته النهي الوارد في متى 5: 34 «لاَ تَحْلِفُوا الْبَتَّةَ» وبعد أن تأمل في الآية قال: أنا أفهم موقفك وبودي احترام شعورك ولكنني محصور بالقانون. وانما إكراماً لنص الإنجيل واحترامك له سأتصل بالرئيس الأعلى لقضاة الشرع عله يعفيك من القسم. قالها، ثم تناول سماعة التلفون واتصل بالرئيس وبعد محاورة قصيرة. نقل الى المحكمة الكلمات التالية عن لسان الرئيس: أنا أعرف الكثير عن أمانة البروتستانت المتجددين. فان كان رجلك منهم يمكنك ان تثق فيه وتركن الى صدق كلامه. وهكذا أعفيت من القسم في محكمة مذهبية إسلامية، وسبب إعفائي هو أنني أكرمت المسيح بحفظ وصيته. فأكرمني المسيح أمام جمع من القضاة والمحامين وفقا لقوله: أنا أكرم الذين يكرمونني.

لا تحلفوا البتة قال السيد الرب. بل ليكن كلامكم نعم، نعم، أو لا، لا، وكل ما زاد على ذلك فهو من الشرير. بمعنى ان كل ما يضاف الى ذلك مصدره الشيطان ابليس الشرير. سأل شاب أمين لله رجلا حالفاً: ماذا يدفع لك الشيطان ثمن هذه الأقسام كلها؟ فأجاب لا يدفع لي شيئا. فقال الشاب: انك تعمل عملاً رخيصاً جداً، اذ انت تخالف وصية الرب وتفرق نفسك الثمينة دون مقابل. فبكل تأكيد انك تقوم بعمل رخيص جدا.

قال الرسول يعقوب: قبل كل شيء يا اخوتي «لاَ تَحْلِفُوا، لاَ بِالسَّمَاءِ، وَلاَ بِالأَرْضِ، وَلاَ بِقَسَمٍ آخَرَ. بَلْ لِتَكُنْ نَعَمْكُمْ نَعَمْ، وَلاَكُمْ لاَ» (يعقوب 5: 12). هذه وصية رسولية تبين لنا ما على الحلف من عقاب الدينونة. انتخب أحد الأساقفة حاكما لمدينة كبرى فسمعه فلاح يوما يقسم بصورة شنيعة فاندهش. فسأله الأسقف عن سبب اندهاشه، فقال: كيف لا أندهش وأنا أسمع الأسقف يحلف. فقال الأسقف: انني أحلف كحاكم وليس كأسقف. فقال الفلاح: ولكن يا سيدي حين يذهب الحاكم الى جهنم، ماذا يحدث للأسقف؟

ليكن كلامكم نعم نعم، أو لا لا، قال السيد الرب. وفي قوله هذا لم ينهنا عن الحلف وحسب بل أيضا عن اللف والدوران. فلايجوز الا ان الحق الصريح الواضح، ولا شيء غير ذلك. وهذا يفتح أمامنا موضوعا خطيرا جدا. اذ توجد حالات يظن فيها بعض الناس انه يجوز لهم استعمال الالتواء لقاء مصلحة.

تحدثت مرة في هذا الموضوع مع رجل يلبس صورة التقوى. فراوغ مستشهدا بالمثل السخيف القائل. ان كذبا يصلح، لخير من صدق يفسد. ولما سألته مثلاً عن الكذب الذي يصلح قال: هب ان اثنين من أصدقائك تخاصما وراح كل منهم يتكلم سوءاً على الآخر. فتذهب الى الواحد وتقول له: يا صاح حرام ان تبقى حاقداً على فلان. لأنه بالرغم من الخصومة بينكما ما زال يحبك ويتكلم عنك حسنا وقد سمعته يثني عليك مرات عديدة. ثم تكرر الأمر مع الثاني، فيجد قولك مستحباً لدى الاثنين. وتكون النتيجة انك أوجدت بهذه الكذبة البيضاء سلاماً بينهما. هذا هو منطق الشرير إبليس الذي قال ربنا يسوع: انه كذاب وأبو الكذاب.

حبل الكذب قصير كما يقولون والصلح الذي أساسه الكذب لا يثبت الى النهاية. أما كلمة الحق فلا تتزعزع كما هو مكتوب في الأمثال: شفة الصدق ثابتة ولسان الكذب انما هو الى طرفة عين. ولقد تثبت بالاختبار ان المرء اذا ما انحدر في دركات الأكاذيب يفقد احترامه لنفسه ولإلهه. فيسرف في الكذب حتى ليكذب على نفسه وعلى إلهه. عرفت عن مرائي في بلدة النبطية انه يحتال على نهي القرآن عن الربا بطريقة تحمل الى الضحك. فهو حين يقرض مالاً لأحد تبلغ فائدته ماية ليرة مثلاً، يقدم له حبة شوكولا ويقول: بعتك هذه بماية ليرة مبروك. فهذا المرابي في اجتهاده على تعليم دينه يكذب على الله وعلى نفسه. لا تكذبوا على الحق، قال الرسول يعقوب، ليست هذه الحكمة نازلة من فوق بل هي أرضية نفسانية شيطانية.

الصدق يا أخي الصدق! الصدق أولى بأن يقال لأن الكذب وان حقق لصاحبه مكاسب مادية. فالخسارة الروحية والأدبية التي تنجم عنه باهظة جداً. إنها خسارة النفس العزيزة. «مَاذَا يَنْتَفِعُ الإِنْسَانُ لَوْ رَبحَ الْعَالَمَ كُلَّهُ وَخَسِرَ نَفْسَهُ؟ »(متّى 16: 26) ومما يؤسف له كثيرا هو ان البعض يظنون ان الكذب من ملتزمات بعض المهن كالمحاماة مثلاً!

نعم، لا تتعجبوا من ان هذه المهنة التي وجدت لتدافع عن الحق. يراد بها ان تنحرف عن الحق وتتكل على الكذب لكي تنجح. صحيح ان المحامي النزيه يخسر الكثيرين من الزبائن في بداية عمله. ولكنه يكسب الحق، ويكسب نفسه ويكسب الشرفاء من الزبائن.

خلال عمله كمحام كان الرئيس ابراهام لنكولن يقنع موكليه بسحب قضاياهم اذا ما رآها غير عادلة. وقد قال مرة لزبون: أنا أستطيع ان أربح قضيتك بسهولة ولكن هذا سيضايق أما لستة أولاد. لذلك أرفضها وأنصحك بأن تشتغل بيديك وتربح الستماية دولارا بدلا من اغتصابها من أرملة. طبعا ان لنكولن خسر زبونا ولكن استقامته ربحت زبائن كثيرين من الأشراف. ثم ربح الأمة الاميركية بأسرها اذ انتخبته في ما بعد رئيس لها.

أما الطامة الكبرى في الوسط التجاري هناك سوق الأكاذيب والاحتيالات هناك تطلق الأقسام بأبشع الصور. فالتجار يقولون ان الناس مطبوعين على حب المسامعة بحيث لا يستطيع التاجر ان يقول السعر الحقيقي من أول كلمة. وبالمقابل يقول الزبائن: نحن انما نساوم دفاعا عن حقوقنا. لأن الاختبار علمنا ان التاجر لا يقول الصدق من أول وهلة. ومن هنا كان البيع عملية معقدة في بلادنا العربية عملية فيها الحلف والمناورات الكاذبة. ومع ذلك فهذه العقدة ليست بمستحيلة الحل لو اعتمد التاجر طريقة السعر المحدود. قد يجدصعوبة في البداية ولكن ما ان يعرف الناس صدقه حتى يثقوا به وينال النجاح. قال يوحنا الرسول: «وَنَعْلَمُ أَنَّ ابْنَ اللهِ قَدْ جَاءَ وَأَعْطَانَا بَصِيرَةً لِنَعْرِفَ الْحَقَّ. وَنَحْنُ فِي الْحَقِّ فِي ابْنِهِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ. هذَا هُوَ الإِلهُ الْحَقُّ وَالْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ» (1يوحنا 5: 20).

أيها الاولاد احفظوا نفوسكم من الأصنام. فلنحفظ نفوسنا من أصنام الباطل كلها: الحلف الكذب والكلام القبيح. اطرحوا عنكم الكذب، قال القديس بولس. وتكلموا بالصدق كل واحد مع قريبه.

«لاَ تَخْرُجْ كَلِمَةٌ رَدِيَّةٌ مِنْ أَفْوَاهِكُمْ، بَلْ كُلُّ مَا كَانَ صَالِحًا لِلْبُنْيَانِ، حَسَبَ الْحَاجَةِ، كَيْ يُعْطِيَ نِعْمَةً لِلسَّامِعِينَ . وَلاَ تُحْزِنُوا رُوحَ اللهِ الْقُدُّوسَ الَّذِي بِهِ خُتِمْتُمْ لِيَوْمِ الْفِدَاءِ» (أفسس 4: 29 و30). لا تحلفوا البتة قال الرب يسوع. لان الحلف شر يجلب الهلاك على المتكلم به، كما هو مكتوب في نبوة زكريا 5: 3 و4. «هٰذِهِ هِيَ ٱللَّعْنَةُ ٱلْخَارِجَةُ عَلَى وَجْهِ كُلِّ ٱلأَرْضِ. لأَنَّ كُلَّ سَارِقٍ يُبَادُ مِنْ هُنَا بِحَسَبِهَا، وَكُلَّ حَالِفٍ يُبَادُ مِنْ هُنَاكَ بِحَسَبِهَا. إِنِّي أُخْرِجُهَا يَقُولُ رَبُّ ٱلْجُنُودِ فَتَدْخُلُ بَيْتَ ٱلسَّارِقِ وَبَيْتَ ٱلْحَالِفِ بِٱسْمِي زُوراً، وَتَبِيتُ فِي وَسَطِ بَيْتِهِ وَتُفْنِيهِ مَعَ خَشَبِهِ وَحِجَارَتِهِ».