العودة الى الصفحة السابقة

«وَلٰكِنِّي أَفْعَلُ شَيْئاً وَاحِداً: إِذْ أَنَا أَنْسَى مَا هُوَ وَرَاءُ وَأَمْتَدُّ إِلَى مَا هُوَ قُدَّامُ. أَسْعَى نَحْوَ ٱلْغَرَضِ لأَجْلِ جِعَالَةِ دَعْوَةِ ٱللّٰهِ ٱلْعُلْيَا فِي ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ» (فيلبي 3: 13 - 14).

بهذه العبارات الرائعة جمع الرسول بولس كل الأهداف النبيلة في هدف واحد يجب السعي لبلوغه، مما يجعلنا نتساءل عن معنى هذا الانقلاب في حياة الرجل. فقد كان في حداثته يبغي الوصول الى مركز القيادة في الأمة اليهودية، ولهذا جاء الى أورشليم، وتلقى دروس الدين على يدي الربّي غملائيل. ولعل دراسته كانت الوسيلة لتحقيق الأحلام التي راودته لتزعم حركة الفريسيين الغيارى على الناموس، ومنها الوصول الى كرسي رئاسة الكهنة.

فسعى الى ذلك بكل رغبة مظهراً غيرته عبر اضطهاد المسيحيين. ولكنه إذ كان في طريقه الى دمشق للتنكيل بمختاري يسوع، رأى بغتة هدفاً أعلى وضعه يسوع أمام عينيه. هدف تلاشت أمامه كل الأهداف السابقة، كما يتلاشى الظلام أمام نور الشمس. فعلى ضوء الإعلانات الإلهية رأى ان فرّيسيته لم تكن سوى طبل أجوف. وان غيرته الشديدة للناموس لم تكن سوى حماس في سبيل الحرف الميت. وان تنكيله بالمسيحيين لم يكن سوى ظلم فاحش لن يؤدي الى اقتلاع جذور المسيحية. لأن المسيحية تأسست على صخر الدهور ربها ومخلصها يسوع المسيح وأبواب الجحيم لن تقوى عليها. لقد تراءى له الرب يسوع ببهاء مجده العظيم وقال له.: شاول قف «صَعْبٌ عَلَيْكَ أَنْ تَرْفُسَ مَنَاخِسَ» (أعمل 9: 5).

ان الكنيسة التي تريد إبادتها هي جماعة مختاري القديسين ومن يمسهم يمس حدقة عيني. الحق أقول لك: ان الجبال تزول والآكام تتزعزع أما إحساني فلن يزول عنها. من اجتمع عليها فاليها يسقط وكل آلة صورت ضدها لا تنجح، وكل لسان يقوم عليها بالقضاء تحكم عليه «وَلٰكِنْ قُمْ وَقِفْ عَلَى رِجْلَيْكَ لأَنِّي لِهٰذَا ظَهَرْتُ لَكَ، لأَنْتَخِبَكَ خَادِماً وَشَاهِداً بِمَا رَأَيْتَ وَبِمَا سَأَظْهَرُ لَكَ بِهِ، مُنْقِذاً إِيَّاكَ مِنَ ٱلشَّعْبِ وَمِنَ ٱلأُمَمِ ٱلَّذِينَ أَنَا ٱلآنَ أُرْسِلُكَ إِلَيْهِمْ، لِتَفْتَحَ عُيُونَهُمْ كَيْ يَرْجِعُوا مِنْ ظُلُمَاتٍ إِلَى نُورٍ، وَمِنْ سُلْطَانِ ٱلشَّيْطَانِ إِلَى ٱللّٰهِ، حَتَّى يَنَالُوا بِٱلإِيمَانِ بِي غُفْرَانَ ٱلْخَطَايَا وَنَصِيباً مَعَ ٱلْمُقَدَّسِينَ» (أعمال 26: 16-18).

منذ تلك اللحظة ثبت شاول (بولس) وجهه نحو هدف جديد مكرساً نفسه للمحبة التي لا تسقط. والمحبة سربلته بالعذوبة والتواضع والوداعة والرقة الممتزجة بصفات يسوع. لقد اكتحلت عيناه بنور الرؤيا المجيدة فأبصر البون الشاسع بين الهدف الذي كان ينشده ودعوة الله العليا في المسيح يسوع. وفي ضوء الرؤيا المجيدة أجرى تقويما للأوضاع، ولم يلبث ان قال: «لٰكِنْ مَا كَانَ لِي رِبْحاً فَهٰذَا قَدْ حَسِبْتُهُ مِنْ أَجْلِ ٱلْمَسِيحِ خَسَارَةً. بَلْ إِنِّي أَحْسِبُ كُلَّ شَيْءٍ أَيْضاً خَسَارَةً مِنْ أَجْلِ فَضْلِ مَعْرِفَةِ ٱلْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّي، ٱلَّذِي مِنْ أَجْلِهِ خَسِرْتُ كُلَّ ٱلأَشْيَاءِ، وَأَنَا أَحْسِبُهَا نُفَايَةً لِكَيْ أَرْبَحَ ٱلْمَسِيحَ» (فيلبي 3: 7 و8) والى أن أموت ستكون رغبتي الملحة ان احقق في حياتي يوماً فيوماً، قليلاً من الجمال والمجد اللذين رأيتهما في وجه يسوع. فلأدفن الماضي «وأَسْعَى نَحْوَ الْغَرَضِ لأَجْلِ جَعَالَةِ دَعْوَةِ اللهِ الْعُلْيَا فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ» (فيلبي 3: 14).

يا أخي، ان صوت الله يناديك اليوم لكي تشارك بولس هذا الفكر. ان تتمثل بيسوع لكي تعرفه أكثر وتحبه أكثر وتتشبه به أكثر. هذه هي دعوة الله لك أن تصير الى شبه المسيح ابن الله في البر وقداسة الحق. وما أعظمها من مناسبة أن تطرح كل ثقل والخطية المحيطةبك، وان تحاضر بالصبر في الجهاد الموضوع أمامك من أجل جعالة دعو الله العليا. ناظرا «إِلَى رَئِيسِ الإِيمَانِ وَمُكَمِّلِهِ يَسُوعَ، الَّذِي مِنْ أَجْلِ السُّرُورِ الْمَوْضُوعِ أَمَامَهُ، احْتَمَلَ الصَّلِيبَ مُسْتَهِينًا بِالْخِزْيِ، فَجَلَسَ فِي يَمِينِ عَرْشِ الله» (عبرانيين 12: 2).

أيها الأحباء

في عالمنا هذا يكد الناس للحصول على الثروة ويطلبون الرفعة وينسون ان الإنسان سينحدر في الأخير الى القبر، تاركاً ثروات وأمجاد هذا العالم الفاني. قيل عن صلاح الدين الأيوبي، انه اذ كان في ضجعة الموت، أمر أحد جنوده ان يحمل كفنه على سنان رمحه الطويل ويطوف في شوارع المدينة منادياً: هذا كل ما يأخذه صلاح الدين من متاع الدنيا. ويا له من درس عظيم يلقيه هذا القائد الكبير على أولئك الساعين وراء الغنى والأمجاد الزائلة. انه يذكرنا بقول الرسول: «لأَنَّنَا لَمْ نَدْخُلِ الْعَالَمَ بِشَيْءٍ، وَوَاضِحٌ أَنَّنَا لاَ نَقْدِرُ أَنْ نَخْرُجَ مِنْهُ بِشَيْءٍ. فَإِنْ كَانَ لَنَا قُوتٌ وَكِسْوَةٌ، فَلْنَكْتَفِ بِهِمَا» (تيموثاوس 6: 7 و8). وايضا يسعى الناس وراء اللذات وينسون ان لذات هذا العالم باطلة وفانية.

قال سليمان: «اتَّخَذْتُ لِنَفْسِي مُغَنِّينَ وَمُغَنِّيَاتٍ وَتَنَعُّمَاتِ بَنِي ٱلْبَشَرِ، سَيِّدَةً وَسَيِّدَاتٍ. فَعَظُمْتُ وَٱزْدَدْتُ أَكْثَرَ مِنْ جَمِيعِ ٱلَّذِينَ كَانُوا قَبْلِي فِي أُورُشَلِيمَ، وَبَقِيَتْ أَيْضاً حِكْمَتِي مَعِي. وَمَهْمَا ٱشْتَهَتْهُ عَيْنَايَ لَمْ أُمْسِكْهُ عَنْهُمَا. لَمْ أَمْنَعْ قَلْبِي مِنْ كُلِّ فَرَحٍ، لأَنَّ قَلْبِي فَرِحَ بِكُلِّ تَعَبِي. وَهٰذَا كَانَ نَصِيبِي مِنْ كُلِّ تَعَبِي. ثُمَّ ٱلْتَفَتُّ أَنَا إِلَى كُلِّ أَعْمَالِي ٱلَّتِي عَمِلَتْهَا يَدَايَ، وَإِلَى ٱلتَّعَبِ ٱلَّذِي تَعِبْتُهُ فِي عَمَلِهِ، فَإِذَا ٱلْكُلُّ بَاطِلٌ وَقَبْضُ ٱلرِّيحِ، وَلاَ مَنْفَعَةَ تَحْتَ ٱلشَّمْسِ!» (جامعة 2: 8-11). ولكن شكرا لله لاجل السعي نحو جعالة دعوة الله العليا في المسيح. انها ليست باطل، انها ميراث القديسين في النور، الميراث الذي لا يفنى ولا يتدنس ولا يضمحل محفوظ في السموات من أجلنا.

أيها الإخوة والأخوات

ان جعالة دعوة الله العليا في المسيح يسوع قد وجهت الى كل واحد منا. وما علينا إلا ان نفتح عيون ذهننا لنرى اليد التي ثقبت على الصليب، وهي ترتفع لتضع إكليل الحياة على رأس كل طالب الله. كن أمينا حتى الموت فأعطيك اكليل الحياة قال يسوع. ولكن علينا ان نعلم ان لسان حال الدعوة العليا يهيب بنا أن يتمثل كل واحد منا بالفادي الرب. وأن يعرفه في تواضعه وأن ينجذب بجاذب صليبه وقيامته، وان يتذوق شركة آلامه بالتشبه به. بمعنى أن يقترب منه يوماً فيوماً لكي يشترك بقداسته ومن ثم في مجده. صادقة هي الكلمة، ان كنا نتألم معه فسنتمجد أيضا. يا لها من دعوة سامية! انها تفوق كل مطامحنا وكل ما يخطر على بالنا من رفعة.

قيل ان نحاتاً مبدعاً بعد كفاح عدة سنين صنع تمثالاً كامل الاتقان. وذات يوم شوهد واقفا أمام التمثال وهو يبكي ويقول: ويلاه! لن أستطيع ان أفعل شيئا أفضل! هذا منتهى ما في وسعي الوصول اليه. أما نحن فيمكننا ان نسعى ونسعى كل العمر نحو جمال يسوع دون بكاء. لأن الآفاق التي أوجدها لنا يسوع متسعة جدا، ونحن نأخذ كل يوم من ملئه ونعمة فوق نعمة. انها دعوة سامية حقاً لأنها تهيب بنا أن نطلب ما فوق حيث المسيح جالس عن يمين الله. قد يقول أحدنا، ان أهداف هذه الدعوة تتجاوز طاقتي فأنا إنسان ضعيف. انه دعوة سماوية وأنا الإنسان ترابي ولا قبل لي ببلوغ مراميها. فالى هذا أقول: يا اخي عد بالذاكرة الى بولس فقد انطلق من مستوى كمستواك أو ربما أدنى. فقد اعترف بأنه كان مجدفاً ومضطهداً ومفترياً ومقاوماً. إلا انه يقول: «لكِنَّنِي لِهذَا رُحِمْتُ: لِيُظْهِرَ يَسُوعُ الْمَسِيحُ فِيَّ أَنَا أَوَّلاً كُلَّ أَنَاةٍ، مِثَالاً لِلْعَتِيدِينَ أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ لِلْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ» (1تيوثاوس 1: 16).

واذكر ان هذه الدعوة العليا هي في المسيح فان كنت في المسيح يكون المسيح فيك رجاء المجد. وبقدرة المسيح اللامحدودة تصير انساناً كاملا ًمتأهباً لكل عمل صالح. اذكر ان الله وهبك ابنه الوحيد لكي تخلص به، ساعة فساعة من الخطية ومن إثم الخطية ومن آثار الخطية. وغايته ان يظهر فيك جمال يسوع أمام ال’خرين. والآن لا بد أن يواجهنا هذا السؤال: كيف يتحقق لنا هذا المثال الأعلى؟

الرسول نفسه يجيب على هذا السؤال اذ يقول بكل بساطة اني «أَفْعَلُ شَيْئًا وَاحِدًا: إِذْ أَنَا أَنْسَى مَا هُوَ وَرَاءُ وَأَمْتَدُّ إِلَى مَا هُوَ قُدَّامُ، أَسْعَى نَحْوَ الْغَرَضِ لأَجْلِ جَعَالَةِ دَعْوَةِ اللهِ الْعُلْيَا فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ» (فيلبي 3: 13 و14). المطلوب اذن يا اخوتي ان لا نكتفي بما نلنا من امتيازات كأعضاء في جسد المسيح، أو كعاملين في حقل الرب. بل أن نثبت أيضا أنظارنا على الهدف الموضوع وأن نجاهد الجهاد الحسن لبلوغه، ناظرين الى رئيس الايمان ومكمله يسوع. أنسى ما هو وراء، قال الرسول، ولعله أراد ان يذكرنا بأننا مجربون بأن نعيش في الماضي متغنين بما احرزناه من نجاح، أو نادبين الحظ لما أصابنا من خلاله من فشل. وقد نبالغ بالزهو بسبب نجاحنا أو نغالي بالتشاؤم بسبب فشلنا. الى درجة نهمل فيها ما يجب ان نعمله في المراحل التالية. فيفوتنا ركب التقدم. والذي لا يتقدم فهو متأخر.

فيا أخي لا تنظر الى الوراء لئلا تتحجر كما تحجرت امرأة لوط فتسقط من دعوتك اذكر قول المسيح أليس أحد يضع يده على المحراث ويلتفت الى الوراء يصلح لملكوت الله. لا تطل التفكير في سقطاتك في الماضي، اذكر غفران الله إكراما لدم يسوع الذي أريق من أجلك. قد تكون هناك أمور مخجلة في ماضي حياتنا وهي ما زالت تتبعنا لكن ان كنا قد سلمناها لله بالاعتراف والايمان فانه قد غفرها لنا ونسيها. وفقا لقوله: «قَدْ مَحَوْتُ كَغَيْمٍ ذُنُوبَكَ وَكَسَحَابَةٍ خَطَايَاكَ» (إشعياء 44: 22). «لاَ تَخَفْ لأَنِّي فَدَيْتُكَ. دَعَوْتُكَ بِاسْمِكَ. أَنْتَ لِي» (إشعياء 43: 1).

لذلك انس الخطية التي لطخت ذاكرتك وتقدم الى الأمام لتنظر جمال يسوع وتسمع كلمته: مغفورة لك خطاياك. ومنذ اليوم أقطع لفاديك عهدا بأن لا تترك فصاعدا هفوة دون ان تعترف له بها. انحنِ قدام العلي وقل: يا رب اعطني ان أتشبه بمخلصي فأكون قديسا كما هو قدوس. أعطني ان اكون وديعا متواضع القلب رقيقا حلوا، كما كان فادي لكي أسلك بكماله. أعطني ان البي دعوتك العليا فأقوم واصعد الى جبل قدسك لاسكن في منزلك.

لنسع نحو الغرض، لاجل جعالة دعوة الله العليا عالمين هذا ان الجعالة المنشودة في السماء، والسماء مضمونة لنا باستحقاقات يسوع. وان كانت الجعالة اكليل بر فهذه هي هبة النعمة المجانية بيسوع. وان كانت الجعالة الغبطة بسلام الله، فالمسيح قال سلاما أترك لكم سلامي أعطيكم. فلنجاهد من أجل جعالة دعوة الله العليا، لانها جديرة بأن نجاهد من أجلها، والله يعطينا كل يوم عربونها. فحين نضطجع على الفراش نشعر بأن الله وضع في قلوبنا فرح الروح القدس. هذا جزء من جعالتنا بانتظار اكتمالها في ذلك اليوم الذي فيه سنسمع كلمة الفادي: «تَعَالَوْا يَا مُبَارَكِي أَبِي، رِثُوا الْمَلَكُوتَ الْمُعَدَّ لَكُمْ مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ» (متّى 25: 34).