العودة الى الصفحة السابقة

«اِفْرَحُوا فِي ٱلرَّبِّ»(فيلبي 4: 4)

في إحدى عظاته الرائعة قال الرب يسوع لتلاميذه: «كَلَّمْتُكُمْ بِهذَا لِكَيْ يَثْبُتَ فَرَحِي فِيكُمْ وَيُكْمَلَ فَرَحُكُمْ» (يوحنا 15: 11). والواقع ان كلمة الرب منبع الفرح، ومن يتعمق فيها يزداد فرحه، ويرتفع أكثر فأكثر الى أن يبلغ الكمال وعندئذ يصير فيه فرح الرب قوة. هذه الحقيقة أدركها رجل الله نحميا فكتب وصيته الخالدة: «لاَ تَحْزَنُوا، لأَنَّ فَرَحَ الرَّبِّ هُوَ قُوَّتُكُمْ» (نحميا 8: 10). وأدركها رسول الجهاد العظيم بولس، فكتب لنا أمره اليومي: «اِفْرَحُوا فِي ٱلرَّبِّ كُلَّ حِينٍ وَأَقُولُ أَيْضاً ٱفْرَحُوا» (فيلبي 4: 4).

ونفهم من هذه الشهادات المجيدة ان الفرح من أهم امتيازات المسيحية. فان كان أحد مدعواً مسيحياً وليس فرحه كاملاً فالمعنى انه لم يدخل الى قلب كلمة المسيح، وبالتالي لم يتمتع بامتيازات ملكوت الله، الذي قال الرسول انه بر سلام. فرح في الروح القدس. ولعل السبب في ذلك يعود الى خطية في حياته خطية ما نسي أن يتطهر منها.

زار أحدهم منطقة الحفائر في روما، حيث كان العمال يزيلون النفايات المتراكمة هناك منذ أجيال بعيدة. وفيما هم يعملون تدفقت المياه من ينبوع كان مكبوتاً منذ أمد طويل. هذا الينبوع كان في السابق يتدفق وتتلألأ مياهه في نور الشمس، وانما النفايات خنقته. هكذا المسيحي الفاتر، في قلبه ينبوع فرح يريد أن يتدفق ولكن الخطايا المتراكمة تسد منفذه وتمنعه من الجريان. قال سليمان في سفر الأمثال: «مَنْ يَكْتُمُ خَطَايَاهُ لاَ يَنْجَحُ، وَمَنْ يُقِرُّ بِهَا وَيَتْرُكُهَا يُرْحَمُ» (أمثال 28: 13). أجل ان من يكف عن ستر خطاياه ويقرّ بها يتمتع بغبطة الغفران كما هو مكتوب: «طُوبَى لِلَّذِي غُفِرَ إِثْمُهُ وَسُتِرَتْ خَطِيَّتُهُ» (مزمور 32: 1).

نقرأ في سفر أخبار الأيام الثاني 29: 27 هذه العبارات «وَأَمَرَ حَزَقِيَّا بِإِصْعَادِ الْمُحْرَقَةِ عَلَى الْمَذْبَحِ. وَعِنْدَ ابْتِدَاءِ الْمُحْرَقَةِ ابْتَدَأَ نَشِيدُ الرَّبِّ وَالأَبْوَاقُ». كان نشيد الرب قد انقطع من الهيكل منذ ست عشرة سنة لأن آحاز الملك الشرير ارتد عن عبادة الله الحي وأغلق أبواب بيت الرب وعمل لنفسه مذابح في كل زاوية من أورشليم وفي كل مدينة في المملكة. وأقام مرتفعات لإصعاد محرقات لآلهة أخرى وأسخط الرب اله آبائه. فأصبحت دور الهيكل مهجورة تسرح الجرذان فيها وتمرح. ولكن لما صار المُلك الى حزقيا جمع الكهنة واللاويين في ساحة الهيكل وقال «ٱسْمَعُوا لِي أَيُّهَا ٱللاَّوِيُّونَ، تَقَدَّسُوا ٱلآنَ وَقَدِّسُوا بَيْتَ ٱلرَّبِّ إِلٰهِ آبَائِكُمْ وَأَخْرِجُوا ٱلنَّجَاسَةَ مِنَ ٱلْقُدْسِ، لأَنَّ آبَاءَنَا خَانُوا وَعَمِلُوا ٱلشَّرَّ فِي عَيْنَيِ ٱلرَّبِّ إِلٰهِنَا وَتَرَكُوهُ، وَحَوَّلُوا وُجُوهَهُمْ عَنْ مَسْكَنِ ٱلرَّبِّ وَأَعْطُوا قَفاً وَأَغْلَقُوا أَيْضاً أَبْوَابَ ٱلرِّوَاقِ وَأَطْفَأُوا ٱلسُّرُجَة» (أخبار الأيام الثاني 29: 5-7). «أخرجوا النجاسة» »هذا أول ما يجب عمله، وهذا أول ما نادى به رسل المسيح. فقد قال يعقوب: «نَقُّوا أَيْدِيَكُمْ أَيُّهَا الْخُطَاةُ، وَطَهِّرُوا قُلُوبَكُمْ يَا ذَوِي الرَّأْيَيْنِ» (يعقوب 4: 8). وقال بطرس: طَهِّرُوا نُفُوسَكُمْ فِي طَاعَةِ الْحَقِّ بِالرُّوحِ (1بطرس 1: 22). وقال يوحنا: «نَعْلَمُ أَنَّهُ إِذَا أُظْهِرَ نَكُونُ مِثْلَهُ، لأَنَّنَا سَنَرَاهُ كَمَا هُوَ» (1يوحنا 3: 2). ومن عنده هذا الرجاء به يطهر نفسه كما هو طاهر.

وقال بولس: «لِنُطَهِّرْ ذَوَاتِنَا مِنْ كُلِّ دَنَسِ الْجَسَدِ وَالرُّوحِ..» (2كورنثوس 7: 1) اخْرُجُوا مِنْ هُنَاكَ. لاَ تَمَسُّوا نَجِسًا .اخْرُجُوا مِنْ وَسَطِهَا. تَطَهَّرُوا يَا حَامِلِي آنِيَةِ الرَّبِّ (إشعياء 52: 11). هكذا فعل الكهنة واللاويون ملبين دعوة حزقيا الملك. فتطهروا وطهروا آنية بيت الرب، واخرجوا كل النجاسة التي وجدوها. وبعد التطهير قدموا ذبيحة فرفعت الخطية وابتدأ لنشيد الرب.

فلننظر الى قلوبنا أيها الأحباء، ولنمتحنها في نور قداسة الرب لننظر ان لم تكن خطية ما معششة فيها؟ لنقل مع مرنم اسرائيل الحلو داود: «اخْتَبِرْنِي يَا اَللهُ وَاعْرِفْ قَلْبِي. امْتَحِنِّي وَاعْرِفْ أَفْكَارِي وَانْظُرْ إِنْ كَانَ فِيَّ طَرِيقٌ بَاطِلٌ، وَاهْدِنِي طَرِيقًا أَبَدِيًّا» (مزمور 139: 23 و24).

أيها الأعزاء

لا بد ان كل واحد منا بدأ الفرح في حياته في ساعة خالدة فسطع نور الروح القدس في قلبه وطهره وقدسه. ولكن لعله انساق في تيار العالم، ففترت محبته ورجس جسده وتدنست روحه وتبعا لذلك فقد بهجة خلاصه وأصبح كئيباً قلقاً. هكذا كانت حال داود بن يسى حين أخطأ الى إلهه. ولكن داود لم يبق رازحاً تحت وذره الثقيل الممض، بل طلب الرب بروح منسحقة قائلا: «اِرْحَمْنِي يَا اَللّٰهُ حَسَبَ رَحْمَتِكَ. حَسَبَ كَثْرَةِ رَأْفَتِكَ ٱمْحُ مَعَاصِيَّ. ٱغْسِلْنِي كَثِيراً مِنْ إِثْمِي وَمِنْ خَطِيَّتِي طَهِّرْنِي. رُدَّ لِي بَهْجَةَ خَلاَصِكَ، وَبِرُوحٍ مُنْتَدِبَةٍ اعْضُدْنِي» (مزمور 51: 1 و2 و12). هذا هو الموقف الواجب أن نتخذه أمام الله حين نفتر ونفقد الفرح. أن نعترف بخطايانا لأنه ان اعترفنا بخطايانا فهو أمين وعادل حتى يغفر لنا خطايانا ويطهرنا من كل إثم. وحينئذ يثبت فرح المسيح فينا ويكمل فرحنا ويدوم فينا.

لقد فتح حزقيا أبواب بيت الرب ورممها ورمم المذبح ودعا الكهنة واللاويين. فجاء الكهنة من جهة بمحرقتهم الكاملة التي تشير الى ذبيحة المسيح الكاملة. ومن الجهة الأخرى جاء اللاويون بثيابهم البيضاء التي ترمز الى نقاوة القلب. وما أن أعطيت الإشارة حتى وضعت المحرقة على المذبح ولست أدري إن كان الله قد أرسل ناراً من السماء لالتهام الذبيحة كما حدث حين أصعد ايليا النبي المحرقة على جبل الكرمل. أم أن حزقيا كان قد أمر بإعداد نار المذبح قبل مجيء الكهنة واللاويين. على كل ففي رائحة المحرقة تتصاعد صدحت الأصوات بالترنيم، ترافقها الآلات الموسيقية. ولعل ملائكة السماء صمتت في تلك اللحظة لتسمع نشيد الرب وهو يرتفع من جديد في الهيكل.

أيها الأحباء

بعد أيام قليلة تحتفل دنيانا المسيحية بأحد الشعانين فنعيد معا ذكرى دخول يسوع مدينة الله في موكب المجد ليقدم نفسه ذبيحة اثم عن خطايا العالم. فليتنا بالمناسبة المجيدة نتجاوب مع السيد الرب في ذبيحته الكفارية. فتمم الوصية الرسولية القائلة بفم بولس: «قَدِّمُوا أَجْسَادَكُمْ ذَبِيحَةً حَيَّةً مُقَدَّسَةً مَرْضِيَّةً عِنْدَ اللهِ، عِبَادَتَكُمُ الْعَقْلِيَّةَ. وَلاَ تُشَاكِلُوا هٰذَا ٱلدَّهْرَ، بَلْ تَغَيَّرُوا عَنْ شَكْلِكُمْ بِتَجْدِيدِ أَذْهَانِكُمْ، لِتَخْتَبِرُوا مَا هِيَ إِرَادَةُ ٱللّٰهِ ٱلصَّالِحَةُ ٱلْمَرْضِيَّةُ ٱلْكَامِلَةُ» (رومية 12: 1 و2). لا تندهش من هذه الدعوة كأنها أمر غريب. لأنه إن كان إيماننا بالمسيح حقيقة حية، فلا بد لإيماننا أن يجعل حياتنا ذبيحة حية. صحيح ان يسوع بذبيحته قد أكمل الى الأبد كل المقدسين ولكننا كمسيحيين متحدين بالمسيح دعينا لاتباع خطوات فادينا. يجب كما قال الرسول ان نكمل نقائص شدائد المسيح بأن نحمل الصليب كل يوم ونتبعه.

هكذا قال له المجد: «مَنْ لاَ يَأْخُذُ صَلِيبَهُ وَيَتْبَعُني فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي» (متّى 10: 38). فبالاشتراك في آلامه التي وهبت لنا نقدم أجسادنا ذبيحة حية مرضية. صحيح ان أجسادنا في الطبيعة ميتة ونجسة بالذنوب والخطايا. ولكن المسيح الحي القدوس الحال بالإيمان في قلوبنا يحي أجسادنا المائتة بروحه ويجعلها ذبيحة حية مقدسة. وصحيح ان الذين هم في الجسد لا يستطيعون ان يرضوا الله. ولكن يسوع الذي فدانا بموته وقام أرضى الله نيابة عنا.

هكذا قال اشعياء النبي: «أَمَّا الرَّبُّ فَسُرَّ بِأَنْ يَسْحَقَهُ بِالْحَزَنِ. إِنْ جَعَلَ نَفْسَهُ ذَبِيحَةَ إِثْمٍ يَرَى نَسْلاً تَطُولُ أَيَّامُهُ، وَمَسَرَّةُ الرَّبِّ بِيَدِهِ تَنْجَحُ» (إشعياء 53: 10). فلا تخف يا أخي وقدم ذاتك على مذبح الله. فمحبة المسيح المنسكبة في قلبك بالروح القدس تشعل الذبيحة. وحينئذ يتنسم الآب منها رائحة الرضى والسرور وحينئذ تصير حياتك كلها نشيد فرح في الرب.

تأكدوا أيها الأعزاء ان الاشتراك مع المسيح في آلامه يفتح لنا باب الاشتراك في مجده. هذا السر كشفه الرب يسوع لمرثا أخت لعازر اذ قال لها: «إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَخْدِمُنِي فَلْيَتْبَعْنِي، وَحَيْثُ أَكُونُ أَنَا هُنَاكَ أَيْضًا يَكُونُ خَادِمِي» (يوحنا 12: 26). وبانتظار ان يتم للمؤمن هذا اللقاء المبارك مع فاديه يعيش في فرح الله الذي لا ينطق به ومجيد. فيسوع لا يحفظنا فقد أثناء وجودنا في العالم بل أيضا يغمرنا بالفرح السماوي. لكي نعيش زمان غربتنا هنا في فرح وغبطة باستمرار. من المعلوم اننا جميعا ميالون للبحث الى مصادر الفرح ولكننا لن نجد فرحاً حقيقياً إلا في يسوع الذي أمامه شبع سرور وفي يمينه نعم الى الأبد. ولسعادتنا ان يسوع دعانا منذ الآن الى هذا الشبع، فان قبلنا دعوته يتزايد فرحنا ويتزايد الى ان يكمل في السماء.

«اِفْرَحُوا فِي ٱلرَّبِّ كُلَّ حِينٍ وَأَقُولُ أَيْضاً ٱفْرَحُوا» (فيلبي 4: 4) قال الرسول. فلنفرح ولنفرح لأن يسوع جاء من السماء لكي يفرحنا ثم انطلق الى السماء ليصبح موضوعا لفرحنا. وأرسل الروح القدس الى قلوبنا لكي نتمتع بالفرح، وسوف يأتي ثانية لكي يأخذنا الى المنازل اللؤلؤية التي أعدها في بيت الآب. هناك سنقف أمام عرش الله ونخدمه نهارا وليلا، والجالس على العرش يحل فوقنا ويكتب اسمه على جباهنا.