العودة الى الصفحة السابقة

«إِحْصَاءَ أَيَّامِنَا هٰكَذَا عَلِّمْنَا» (مزمور 90: 12)

نحن في اليوم الأول من العام، اليوم الذي فيه يطيب الشكر للمنعم الجواد، الذي حفظنا خلال العام الماضي. ومُتعنا بالمزيد من البركات الروحية والزمنية، وعّزانا في كل ضيقة وأعطانا النعمة لكي نعزي جميع الذين هم في ضيق حولنا. لقد طوينا فصلاً من قصة حياتنا لنبدأ فصلاً جديداً، وأنها لمناسبة طيبة لكي نبدأ عهداً جديداً مع الرب إلهنا مصممين بالاتكال عليه أن نصنع ما يرضي أمامه بالمسيح يسوع ربنا.

ولكن قبل كل شيء يجب أن نعترف بأننا في مناسبات كثيرة قد تحصرنا، ولم نتعرف بحسب حكمة افتداء الوقت التي هي من مستلزمات حياة الإيمان لكل الذين يريدون أن يخدموا الله الحي. فإن كنا ونحن على عتبة سنتنا الجديدة نريد أن نعّوض عما فات فما علينا إلا أن نطلب هذه الحكمة فتعطى لنا. كما هو مكتوب: «إِنْ كَانَ أَحَدُكُمْ تُعْوِزُهُ حِكْمَةٌ، فَلْيَطْلُبْ مِنَ اللهِ الَّذِي يُعْطِي الْجَمِيعَ بِسَخَاءٍ وَلاَ يُعَيِّرُ، فَسَيُعْطَى لَهُ» (يعقوب 1: 5).

لنقل مع المرنم: «إِحْصَاءَ أَيَّامِنَا هكَذَا عَلِّمْنَا فَنُؤْتَى قَلْبَ حِكْمَةٍ!» (مزمور 90: 21) طبعاً إن احصاء الأيام ليس في تقليب وريقات الروزنامة يوماً بعد يوم، بل أن نضع نظاماً دقيقاً لحياتنا بحيث لا نصرف يوماً دون أن نقوم بعمل مثمر لمجد الرب فادينا، الذي قال «وَأَقَمْتُكُمْ لِتَذْهَبُوا وَتَأْتُوا بِثَمَرٍ، وَيَدُومَ ثَمَرُكُمْ» (يوحنا 15: 16). وما أحلى أن نضع نصب أعيننا الوصية الرسولية التي كتبها الرسول بولس للأفسيين «فَانْظُرُوا كَيْفَ تَسْلُكُونَ بِالتَّدْقِيقِ، لاَ كَجُهَلاَءَ بَلْ كَحُكَمَاءَ مُفْتَدِينَ الْوَقْتَ لأَنَّ الأَيَّامَ شِرِّيرَةٌ» (أفسس 5: 15 و16).

في الواقع، إنّ السلوك بالتدقيق وافتداء الوقت هما من ميزات المسيحي المكرس، الذي يحيا حياة سهر وصلاة متأهباً لكل عمل صالح. فهو «كَشَجَرَةٍ مَغْرُوسَةٍ عِنْدَ مَجَارِي الْمِيَاهِ، الَّتِي تُعْطِي ثَمَرَهَا فِي أَوَانِهِ، وَوَرَقُهَا لاَ يَذْبُلُ. وَكُلُّ مَا يَصْنَعُهُ يَنْجَحُ»(مزمور 1: 3).

لنذكر أن المسيح أقامنا سفراء عنه وقد حملت رسالته مزدوجة إذ قال:

«أَنْتُمْ مِلْحُ الأَرْضِ ، أَنْتُمْ نُورُ الْعَالَمِ. فَلْيُضِئْ نُورُكُمْ هكَذَا قُدَّامَ النَّاسِ، لِكَيْ يَرَوْا أَعْمَالَكُمُ الْحَسَنَةَ، وَيُمَجِّدُوا أَبَاكُمُ الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ» (متّى 5: 13 و14 و16).

«اسْلُكُوا كَأَوْلاَدِ نُورٍ، لأَنَّ ثَمَرَ ٱلرُّوحِ هُوَ فِي كُلِّ صَلاَحٍ وَبِرٍّ وَحَقٍّ. مُخْتَبِرِينَ مَا هُوَ مَرْضِيٌّ عِنْدَ ٱلرَّبِّ. وَلاَ تَشْتَرِكُوا فِي أَعْمَالِ ٱلظُّلْمَةِ غَيْرِ ٱلْمُثْمِرَةِ بَلْ بِٱلْحَرِيِّ وَبِّخُوهَا. لِكَيْ تَكُونُوا بِلاَ لَوْمٍ، وَبُسَطَاءَ، أَوْلاَدًا ِللهِ بِلاَ عَيْبٍ فِي وَسَطِ جِيل مُعَوَّجٍ وَمُلْتَوٍ، تُضِيئُونَ بَيْنَهُمْ كَأَنْوَارٍ فِي الْعَالَمِ» (أفسس 5: 8-11 وأفسس 2: 15). بهذا السلوك المسيحي الممتاز نستطيع أن نؤدي الشهادة بأن مسيحنا هو حقاً نور العالم، وأن كل من يتبعه لا يمشي في الظلمة بل يكون له نور الحياة.

أيها الأحباء

إن الله معنا في هذه الساعة لأننا قد اجتمعنا باسم يسوع، وأن قلبه تعالى لمغتبط جداً لأننا عشنا عامنا الماضي في جو التعبد له. وقد عزمنا على أن نعيش مآتي أيامنا قريبين منه وبين يديه، صانعين مشيئته. إلا أن السيد الرب يضع اصبعه على ضعفاتنا معيداً لنا رسالته القديمة إلى كنيسة أفسس «أَنَا عَارِفٌ أَعْمَالَكَ وَتَعَبَكَ وَقَدِ احْتَمَلْتَ وَلَكَ صَبْرٌ، وَتَعِبْتَ مِنْ أَجْلِ اسْمِي لٰكِنْ عِنْدِي عَلَيْكَ أَنَّكَ تَرَكْتَ مَحَبَّتَكَ ٱلأُولَى. فَٱذْكُرْ مِنْ أَيْنَ سَقَطْتَ وَتُبْ، وَٱعْمَلِ ٱلأَعْمَالَ ٱلأُولَى. (أعمال) الإِيمَانُ الْعَامِلُ بِالْمَحَبَّة» (رؤيا 2: 2-5 وغلاطية 5: 6).

وكم هو جميل أن ينهضنا الرب بالتذكرة، مذكراً كل واحد منا بمحبته الأولى، المحبة التي كانت قوية يوم عرف الرب يسوع وتجددت حياته بكلمة الله وبروح إلهنا، فصار في المسيح خليقة جديدة. يومئذ أحب الرب إلهه من كل قلبه ومن كل نفسه ومن كل قدرته، وأحب قريبه كنفسه وأحب أعداءه كقريبه. وإنما بسبب مسايرته لأفكار هذا العالم الذي وضع كله في الشرير، فترت محبته وقلت ثماره.

وقد ينجم الفتور بسبب قلة قراءة الكتاب المقدس والصلاة. فما أجمل أن نتخذ من اليوم الأول لعامنا الجديد نقطة انطلاق في علاقة جديدة منظمة مع الله. فنعكف طيلة السنة على قراءة كلام الله، لننمو في النعمة وفي معرفة المسيح، مصلين بكل صلاة وطلبة في كل وقت في الروح. لنقل للرب إلهنا يا سيدي الرب أنا محتاج إلى تأدية النعمة. إنني أبغي الوصول إلى محل بالقرب منك، محل لا تستطيع أمور هذا العالم أن تمنعني من الوصول إليه.

لنقل للرب الحبيب ما قالته عروس النشيد، «اُجْذُبْنِي وَرَاءَكَ فَنَجْرِيَ» (نشيد الأنشاد 1: 4). لنقل كما قال مرنم إسرائيل الحلو: يا رب هب «لِي جَنَاحًا كَالْحَمَامَةِ، فَأَطِيرَ وَأَسْتَرِيحَ!» (مزمور 55: 6) ولنعمل بوصية الرسول بطرس في الهرب من الفساد الذي في العالم بالشهوة «بَاذِلُونَ كُلَّ ٱجْتِهَادٍ قَدِّمُوا فِي إِيمَانِكُمْ فَضِيلَةً، وَفِي ٱلْفَضِيلَةِ مَعْرِفَةً، وَفِي ٱلْمَعْرِفَةِ تَعَفُّفاً، وَفِي ٱلتَّعَفُّفِ صَبْراً، وَفِي ٱلصَّبْرِ تَقْوَى، وَفِي ٱلتَّقْوَى مَوَدَّةً أَخَوِيَّةً، وَفِي ٱلْمَوَدَّةِ ٱلأَخَوِيَّةِ مَحَبَّةً. لأَنَّ هٰذِهِ إِذَا كَانَتْ فِيكُمْ وَكَثُرَتْ، تُصَيِّرُكُمْ لاَ مُتَكَاسِلِينَ وَلاَ غَيْرَ مُثْمِرِينَ لِمَعْرِفَةِ رَبِّنَا يَسُوعَ ٱلْمَسِيح» (2بطرس 1: 5-8). نعم إن فعلنا ذلك فلن نزل أبداً خلال العام الجديد والأعوام التالية إن شاء الرب وعشنا. ويصير لنا دخول إلى ملكوت ربنا ومخلصنا يسوع المسيح الأبدي.

أيها الأحباء

إن احتفالنا اليوم بسيط جداً، وليس في حشد كبير من المصلين، وليس لنا جوقة ترينم ولكن لا نكتئب نحن القطيع الصغير. لأن القطيع الصغير له وعد المسيح برعاية خاصة إذ قال له المجد «لاَ تَخَفْ، أَيُّهَا الْقَطِيعُ الصَّغِيرُ، لأَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ سُرَّ أَنْ يُعْطِيَكُمُ الْمَلَكُوتَ» (لوقا 12: 32).وأيضاً إن كنا لا نحسن أداء النغم في الترنيم، فحسبنا أن قلوبنا تحسن أداء الشكر للفادي «الَّذِي أَحَبَّنَا، وَقَدْ غَسَّلَنَا مِنْ خَطَايَانَا بِدَمِهِ وَجَعَلَنَا مُلُوكًا وَكَهَنَةً للهِ أَبِيهِ» (رؤيا 1: 5 و6). وكفانا من دنيا الأعياد أن الرب معنا هنا وعينه علينا كما هو مكتوب «هُوَذَا عَيْنُ الرَّبِّ عَلَى خَائِفِيهِ الرَّاجِينَ رَحْمَتَه» (مزمور 33: 18). يد أن يبدأ معنا عاماً جديداً بالبركة والعناية والرعاية. فلتفرح قلوبنا لأننا على اسمه القدوس اتكلنا. أما رسالته لنا فهي أولاً رسالة تشجيع إذ يقول أنا هو لا تخافوا. ها أنا معكم كل الأيام وإلى انقضاء الدهر! إنه يقول لكل واحد منا: ليتشدد وليتشجع قلبك وانتظر الرب. أنت في قلبي وسأحفظك من ساعة التجربة، العتيدة أن تأتي على العالم. «لاَ تَخَفْ لأَنِّي فَدَيْتُكَ. دَعَوْتُكَ بِاسْمِكَ. أَنْتَ لِي» (إشعياء 43: 1).

ثانياً: رسالة عهد وضمان، وفقاً لقوله: خِرَافِي تَسْمَعُ صَوْتِي، وَأَنَا أَعْرِفُهَا فَتَتْبَعُنِي وَأَنَا أُعْطِيهَا حَيَاةً أَبَدِيَّةً، وَلَنْ تَهْلِكَ إِلَى الأَبَدِ، وَلاَ يَخْطَفُهَا أَحَدٌ مِنْ يَدِي (يوحنا 10: 27 و28)، دفع إلى كل سلطان في السماء وعلى الأرض فكل الأشياء في يدي. وأنا أجعلها تعمل معاً للخير للذين يحبون الله، الذين هم مدعوون حسب قصده. أنا الرب في وسط كنيستي، فلن تتزعزع ولو انقلبت الجبال إلى وسط البحار. على كفي نقشت أسوارها وحصنتها بعنايتي فكل آلة صورت ضدها لا تنجح، وكل لسان يقوم عليها في القضاء يحكم عليه.

أيها الأحباء

بعد منتصف الليل الفائت، راودت خواطر الناس آمال وأماني عذاب بمناسبة السنة الجديدة فتمنى كل واحد لنفسه ولأحبائه أشياء يظن أنها تجلب السعادة فالبعض تمنوا الثروة، والبعض تمنوا الصحة، والبعض تمنوا الجاه الواسع. أما نحن قطيع المفديين فما أجمل أن تكون تمنياتنا صلوات حارة لأجل السلام. أن يعرف كل إنسان ما هو لسلامه وأن يفتدي زمن افتقاده. وأن يتبرر كل إنسان بالإيمان فيصير له سلام مع الله. بربنا يسوع المسيح. وأن نسأل إلهنا بإيمان لكي يبارك شعوب الأرض ملوكاً ورؤساء وقادة حتى يعرفوا ويعملوا ما هو لسلام العالم. فلا يحتكموا بعد إلى السيف لحل الخلافات والمشاكل المعقدة. بل يعلموا وفقاً لناموس روح الحياة في المسيح يسوع القائل «كُلُّ مَا تُرِيدُونَ أَنْ يَفْعَلَ النَّاسُ بِكُمُ افْعَلُوا هكَذَا أَنْتُمْ أَيْضًا بِهِمْ» (متّى 7: 12). وحينئذ يتم ما قيل باشعياء النبي «فَيَطْبَعُونَ سُيُوفَهُمْ سِكَكًا وَرِمَاحَهُمْ مَنَاجِلَ. لاَ تَرْفَعُ أُمَّةٌ عَلَى أُمَّةٍ سَيْفًا، وَلاَ يَتَعَلَّمُونَ الْحَرْبَ فِي مَا بَعْدُ» (إشعياء 2: 4). أما نحن فليكن شعارنا للسنة طلبة موسى رجل الله في المزمور التسعين «وَلْتَكُنْ نِعْمَةُ الرَّبِّ إِلهِنَا عَلَيْنَا، وَعَمَلَ أَيْدِينَا ثَبِّتْ عَلَيْنَا، وَعَمَلَ أَيْدِينَا ثَبِّته» (مزمور 90: 17)